اللامساواة الاقتصادية العالمية

كتابة: Max Roser - بتاريخ 23/2/2022

ترجمة: محمد هانئ حلمي ثريا - بتاريخ 24-12-2023


إن أكثر ما يهم بشأن مستوى صحتك، وثرائك، وتعليمك ليس من أنت، بل أين أنت. إن لمعرفتك واجتهادك في العمل دور أيضًا، ولكنه يقل كثيرًا عن دور العامل الوحيد الذي لا يتحكم فيه أحد: ما إن كنت قد وُلِدتَ في بلدٍ ذي اقتصادٍ منتج وصناعي أم لا.

إن اللامساواة في الدخل على الصعيد العالمي شاسعة. الرسم البياني يوضح ذلك. وقد أخذنا الاختلافات في تكلفة المعيشة بعين الاعتبار، كما هو الحال مع جميع البيانات في هذه المقالة.

إن الغالبية العظمى من سكّان العالم فقيرون للغاية. إذ يعيش النصف الأكثر فقرًا من العالم، أي ما يقرب من 4 مليار شخص، على أقل من 6.70 دولارات في اليوم.

إذا كنت تعيش على 30 دولارًا في اليوم فأنت جزء من أغنى 15% في العالم (30 دولارًا في اليوم يتوافق تقريبًا مع خطوط الفقر المحددة في البلدان ذات الدخل المرتفع).

يمكن للتفاوت أن يكون مرتفعًا للغاية داخل البلد الواحد، والولايات المتحدة -وهي دولة  ذات دخل مرتفع تعاني من تفاوت هائل- مثال رئيسٌ على ذلك. ولكن معظم اللامساواة في العالم تندرج ضمن التفاوت بين البلدان. يوضح ويقارن الرسم البياني التالي توزيع الدخل بين الولايات المتحدة و  بوروندي.

اللامساواة الاقتصادية الواسعة تعني لامساواةً واسعة في ظروف المعيشة

إن اللامساواة الاقتصادية الكبيرة ليست سوى بُعد واحد من أبعاد اللامساواة العالمية. هناك العديد من الجوانب الأخرى التي يهتم الناس بها.

ولكن نظرًا لأن الدخل المرتفع مهم جدًّا لظروف المعيشة الجيدة، فإن أنواع اللامساواة الأخرى هذه ترتبط باللامساواة الاقتصادية. أولئك الذين يعيشون على دخل أعلى يتمتعون بمزايا عديدة.

يوضح الرسم البياني كيف تبدو الحياة على مستويات الدخل المختلفة في 12 بُعدٍ مختلف.

على المحور الأفقي في كل لوحة ترى الناتج المحلي الإجمالي لكل نسمة (GDP per Capita)، الذي يقيس متوسط الدخل في بلد ما. بدءًا من أعلى اليسار، تُظهر هذه اللوحات أنه عندما يكون الدخل مرتفعًا فإن الناس يعيشون لفترة أطول، ويموت الأطفال والأمهات بمعدلات أقل، ويمكن للأطباء التركيز على عدد أقل من المرضى، ويحصل الناس على فرص أفضل للحصول على مياه الشرب النظيفة والكهرباء، ويمكنهم السفر أكثر، ولديهم المزيد من وقت الفراغ، كما يحصلون على فرص أفضل للتعليم ونتائج تعليمية أفضل، ويكون الناس أكثر رضا عن حياتهم.

إن اللامساواة بين ظروف الناس المعيشية تعكس اللامساواة الاقتصادية العالمية.

إن حجم هذه الاختلافات هائل حقًّا. فمتوسِّط العمر المتوقع في أفقر البلدان هو أقل بنحو 30 عامًا منه في أغنى البلدان. لقد كتبت للتو  أيضًا عن اللامساواة العالمية الضخمة جدًّا في مخرجات التعلم وعلاقتها بالبعد الاقتصادي.

الموقع الجغرافي غالبًا ما يحدد مكان الفرد في سلم توزيع الدخل العالمي شديد اللامساواة

إن رؤية مدى اعتماد ظروفنا المعيشية على إنتاجية الاقتصاد الذي نعيش فيه يجب أن تكون ذات أهمية كبيرة في فهمنا لذواتنا ونظرتنا للآخرين. وفي عالم يتسم بمثل هذه اللامساواة الهائلة بين البلدان، فالذي يحدد ما إذا كان الشخص ثريًّا أو فقيرًا ليس من هو، وإنما أين هو ذلك الشخص.

ولكي نرى هذا، علينا أن نفكر في عالم خالٍ من أي لامساواة بين البلدان. فمثلًا لو كانت جميع البلدان متساوية في الثراء، فإن المكان الذي يعيش فيه شخص ما لن يكون ذا أهمية على الإطلاق بالنسبة لمكانه ضمن توزيع الدخل العالمي.

في المقابل، لننظر إلى حالة من اللامساواة الشديدة بين البلدان، مثل اللامساواة الحالية بين دولة فقيرة وأخرى غنية1. في هذه الحالة، يحدد الوطن الأم للشخص كل شئ. توضح البيانات المعروضة لأثيوبيا والدنمارك ذلك: التوزيعان لا يتداخلان على الإطلاق، فالشخص المولود في الدنمارك لديه دخل أعلى من المتوسط العالمي بشكل شبه مؤكد، وأمّا الشخص المولود في أثيوبيا فلديه دخل أقل من المتوسط العالمي بشكل شبه مؤكد.

وبعيدًا عن الدولتين فقط، فما مدى أهمية الوطن الأصلي لشخص ما بالنسبة إلى موقعه من توزيع الدخل العالمي اليوم؟

درس باحث اللامساواة برانكو ميلانوفيتش Branko Milanovic هذا السؤال ووجد أن البلد التي يعيش بها الفرد تفسر ثلثي التباين في فروق الدخل بين جميع الناس في العالم2. فمكان استقرار المرء هو أهم عامل في تحديد دخله.

ولمجموعة متنوعة من الأسباب - من الروابط الأسرية إلى القيود السياسية التي تعيق الهجرة - فإن عددًا قليلًا جدًّا من الناس يتنقلون بين البلدان. تعيش الغالبية العظمى من سكان العالم [97%] في البلد الذي وُلدوا فيه. ولذلك فبالنسبة لمعظم الناس في العالم، ليس البلد الذي يعيشون فيه فقط هو الذي يحدد دخلهم، بل البلد الذي ولدوا فيه.

ولا يعني ذلك أن أخلاقيات العمل والموهبة ومهارات الفرد ليست مهمة في تحديد مستوى دخله. بل هي مهمة. ولكن ما يعنيه هو أن كل هذه العوامل الشخصية مجتمعة أقل أهمية بكثير من العامل الذي يقع بالكامل خارج نطاق سيطرة الفرد: ما إذا كان قد ولد في اقتصاد كبير ومنتج أم لا.

إن المكان الذي تعيش فيه ليس أكثر أهمية من جميع خصائصك الشخصية فحسب، بل إنه أكثر أهمية من كل شئ آخر مجتمعًا.


أهمية إعادة التوزيع والنمو الاقتصادي للحد من اللامساواة العالمية وتحسين الظروف المعيشية

البيانات التي ناقشتها تسلط الضوء على ثلاث حقائق مهمة حول عالمنا:

  • إن مدى اللامساواة الاقتصادي العالمي هائل؛
  • إن الازدهار الاقتصادي مهم للغاية بالنسبة للظروف المعيشية للناس؛
  • أين يجد الفرد نفسه في سلم توزيع الدخل العالمي غير المتكافئ، يعتبر أمرًا خارجًا عن سيطرته إلى حد كبير.

ما الذي يمكننا استخلاصه من هذه الحقائق الثلاثة؟

إعادة التوزيع

تلعب إعادة التوزيع التي تقوم بها الدول دورًا كبيرًا في الحد من اللامساواة داخل البلد الواحد، كما يمكنها أيضًا تقليص عدم المساواة العالمية. إلا أن الحقيقة هي أنه أيًّا تكن البلد الغنية التي تدفع فيها ضرائبك، فإنّ أيًّا منها تقريبًا لا يصل لفقراء العالم3. إن إعادة التوزيع التي تقوم عليها الحكومات لا تصل إلى أفقر الناس: فهي إعادة توزيع محلية وليست دولية.

أما إن كنت ترغب في تقليل عدم المساواة العالمية ودعم الفقراء، يمكنك التبرع ببعضٍ من مالك، فهذه الفرصة متاحةٌ لك دائمًا.

فبإمكانك العيش بمبلغٍ أقل قليلًا وبإمكان هذا المال إحداث فرق كبير لشخص فقير.

إن الطريقة الأكثر مباشرة هي إرسال بعض من مالك مباشرة إلى أشخاص فقراء جدًّا، وإن المنظمة غير الربحية GiveDirectly تجعل ذلك ممكنًا. أو يمكنك التبرع إلى مؤسسة خيرية فعالة تدعم أفقر الناس في العالم. في الهامش يمكنك إيجاد مثل هذه المؤسسات الخيرية وكيفيّة التبرع لها.4


النمو الاقتصادي

يشير البعض إلى أنه يمكننا القضاء على الفقر من دون تحقيق نمو إضافي وذلك من خلال تقليل عدم المساواة العالمية. ولكن هذا ليس صحيحًا. إن في إمكان تقليل اللامساواة العالمية تحقيق الكثير، ولكن من المهم أن نكون واضحين في أن إعادة التوزيع وحدها ستظل تعني أن مليارات البشر سيعيشون في ظروف مادية سيئة جدًّا. فالعالم أكثر فقرًا بكثير من أن تقضي على الفقر دونما نمو هائل.

للتوصل إلى عالم أكثر مساواة وخالٍ من الفقر، فإن العالم بحاجة إلى نمو اقتصادي هائل.5

يمكننا أن نرى ذلك عندما ننظر إلى تاريخنا العالمي. فقبل قرنين من الزمان كان العالم أكثر مساواة بكثير: كان متوسط الدخل، مُقاسًا بالناتج المحلي الإجمالي لكل نسمة GDP per Capita في الرسم البياني، منخفضًا للغاية في كل مكان، وكانت الغالبية العظمى من الناس تعيش في فقرٍ مدقع.

منذ ذلك الحين حققت بعض البلدان نموًّا هائلًا - فالسويديون على سبيل المثال أغنى بما يعادل 30 مرة مما كانوا عليه منذ قرنين - بينما بعض الاقتصادات لم تكد تحقق أي نمو على الإطلاق. أدى هذا النمو غير المتكافئ إلى اللامساواة العالمية الهائلة اليوم.

إن واقع اللامساواة العالمية اليوم قاسٍ. فأولئك الذين يولدون في اقتصاد حقق نموًّا كبيرًا في القرنين الماضيين ينشؤون في ظروف معيشية أفضل بكثير من أولئك الذين يولدون في اقتصاد فقير. إن النمو الاقتصادي لمليارات البشر الذين يعيشون في الفقر هو ما نحتاج إليه لإنهاء هذا الظلم.


رسم تفاعلي - GDP per capita, 1820 to 2018

GDP per capita - Our World in Data

وتظهر تلك الأماكن التي حققت نموًا كبيرًا مدى تحسن الظروف المعيشية للجميع.

ولنأخذ مثالًا ملموسًا، دعونا ننظر في وفيات الأمهات أثناء الحمل أو الولادة. ففي البلدان مرتفعة الدخل، حيث تستطيع الأمهات الاعتماد على المستشفيات المجهزة تجهيزًا جيدًا والدعم من الأطباء والقابلات عند حدوث مضاعفات، أصبحت وفيات الأمهات نادرة (انخفض خطر الوفاة بمقدار 300 ضعف في الأجيال الأخيرة). ولكن في بقية أنحاء العالم، لا يزال الأمر شائعًا جدًّا: ففي كل عام، تموت 295,000 أم في نفس اللحظة التي تمنح فيها الحياة لطفلها.

كيف سيبدو العالم لو كان خطر وفاة الأمهات على مستوى العالم منخفضًا بنفس درجة انخفاضه في أغنى بلدان العالم؟ ستبقى الغالبية العظمى من الأمهات اللواتي سيمُتْن هذا العام على قيد الحياة.6

نحن نعلم أن هذا ممكن. وهذا ما يوضحه المنظور التاريخي؛ فجميع الأماكن التي تتمتع بظروف معيشية جيدة اليوم كانت فقيرة للغاية حتى قبيل بضعة أجيال فحسب.


الخاتمة

ما رأيناه في البيانات هنا هو أحد أهم رؤى اقتصاديات التنمية: فالناس يعيشون في فقر ليس بسبب ماهيتهم، ولكن بسبب مكان وجودهم. إن معرفة الشخص، ومهاراته، ومدى اجتهاده في العمل كلها مهمة فيما إذا كان فقيرًا أم لا - ولكن كل هذه العوامل الشخصية مجتمعة أقل أهمية من العامل الوحيد الذي يقع تمامًا خارج سيطرة الشخص: ما إذا كان قد ولد في اقتصاد ضخم ومنتج أم لا.

إن ما يمنح الناس فرصة لحياة جيدة هو عندما يتغير المجتمع والاقتصاد من حولهم نحو الأفضل. هذا ما تدور حوله التنمية والنمو الاقتصادي: تحويل المكان بحيث يصبح ما كان في السابق متاحًا لعدد قليل من الناس في متناول الجميع.

تابع القراءة على «عالمنا في البيانات - Our World in Data»

ما هو حجم النمو الاقتصادي الضروري لتقليص الفقر العالمي بدرجة كبيرة؟

شكر وتقدير: أود أن أشكر جو هاسيل وتوبي أورد على تعليقاتهم على هذه المقالة وعلى الصور البيانية.


رابط المقالة المترجمة


الهوامش

1. لقد كتبت وصفًا مُفصَّلًا لهذا الرسم البياني والبيانات المُبيَّنة في منشوري عن الفقر العالمي في عالم غير متكافئ.

2. Branko Milanovic (2015) – “Global Inequality of Opportunity: How Much of Our Income Is Determined By Where We Live?”, The Review of Economics and Statistics 97(2): 452-460. Online here: https://www.mitpressjournals.org/doi/abs/10.1162/REST_a_00432#.VKCF2CcA

كما كتب ملخصًا على VoxEU

https://voxeu.org/article/income-inequality-and-citizenship

3. انظر إلى هذه الخريطة لصافي المساعدة التنموية الرسمية كنسبة من الدخل القومي الإجمالي للدولة المانحة. قليلة هي الدول التي تحقق هدف 0.7% من الدخل الوطني، بمعنى أن حصة الضرائب المدفوعة على مساعدات التنمية الرسمية ضئيلة للغاية. أرى أنه ينبغي أن تكون أعلى، فالمساعدات التنموية هي إحدى الطرق التي يمكن من خلالها لسكان أغنى البلدان تحسين الوضع في أفقر أماكن العالم.

4.  أحد أهم الأمور التي يجب معرفتها عن المؤسسات الخيرية هو أن أثرها متفاوت للغاية - فبعضها غير فعال أو حتى ضرره أكثر من نفعه. وفي المقابل، يمكن لغيرهم القيام بعمل جيد للغاية في مشكلة كبيرة بطريقة منخفضة التكلفة.

GiveWell هو فريق بحثي يبحث عن المؤسسات الخيرية التي تُحدث الفرق الأكبر لكل دولار أو يورو تتبرع به. ستجد على موقعهم المؤسسات الخيرية الموصى بها وأبحاثًا عالية الشفافية والتعمق حول كيفية وصولهم إلى هذه التوصيات.

إن العطاء عبر GiveWell هو أحد طرق التبرع التي أوصي بها.

إن الطريقة التي أتبرع بها هي عبر صناديق تمويل الإحسان الفعال. وهم يعتمدون على أبحاث GiveWell، لكنهم يركزون أيضًا على مجالات أخرى. باعتبارك جهة مانحة، يمكنك تحديد أولوياتك بين هذه المجالات المختلفة، ولكن فوق ذلك، فإنك تثق في فريق صناديق الإحسان الفعال لاتخاذ القرارات نيابة عنك.حيث يتميّزون بوجود فريق  لديه معرفة أكبر عن مختلف المؤسسات الخيرية الفعالة أكثر مما يمكنك أو يمكنني معرفته، مما يمنحهم الفرصة لمنح تلك المؤسسات الخيرية التي لديها أكبر الإمكانات والاحتياجات في وقت معين. أقوم بالدفع في «الصندوق» من خلال تحويل متكرر كل شهر.

5.  للحصول على دليل على ذلك، راجع مقالتي «ما حجم النمو الاقتصادي اللازم لتقليص الفقر العالمي بدرجة كبيرة؟»

6.  وفي أغنى بلدان العالم، يقل معدل الوفيات النفاسية (MMR) بأكثر من 100 ضعف المتوسط العالمي (211/2 = 105.5 أضعاف).

في أغنى دول العالم، يبلغ معدل وفيات الأمهات لكل 100,000 ولادة حية 2؛ أما في جميع أنحاء العالم فهو 211. [المصدر]

  • في جميع أنحاء العالم تموت 295,000 أم كل عام. [مصدر]
  • وهذا يعني (100,000/211) × (100,000/211) = 139,810,426 ولادة سنويًّا.
  • إذا كان معدل وفيات الأمهات العالمي 2 بدلًا من 211 لكل 100,000، فسيؤدي ذلك إلى (139,810,426/100,000) × 2 = 2,796 وفاة أم.
  • [أو حساب أكثر وضوحًا: 295,000/(211/2)=2,796]

وفي كل عام تموت 295 ألف أم أثناء الولادة. ولو كان خطر وفاة الأمهات على مستوى العالم منخفضًا كما هو الحال في أغنى دول العالم، لماتت 2,800 أم [فقط]، ولن تموت 292,200 أم.

التعليقات