إننا نمارس الفرز كل يوم وفي كل لحظة
كتابة: Holly Elmore - نُشرت بتاريخ 26 أغسطس 2016
ترجمة: إيمان وجيه - بتاريخ 29.12.2023
(منشور متبادل من هذه المدونة).
تنويه بحرق الأحداث - استمع إلى الحلقة أولًا إذا كنت لا ترغب في سماع ملخص مختصر.
أعجبتني جدًّا حلقة «لعب دور الإله» التي أذاعها RadioLab.
موضوع الحلقة هو الفرز (Triage)، أي إعطاء الأولوية للمرضى المختلفين في الطوارئ. وبالتالي، فإن الفرز يعني ترشيد استهلاك الموارد النادرة. تعتبر الحلقة أن الفرز ظاهرة نادرة -في الواقع، هي تشير أن بروتوكولات الفرز الطبية لم تؤخذ على محمل الجد في الولايات المتحدة إلا بعد إعصار كاترينا- لكن الفرز ليس حالة نادرة على الإطلاق. فنحن نمارسه مع كل قرار نتخذه في حياتنا.
القصص التي ذكرتها حلقة «لعب دور الإله» مثيرة للاهتمام، وخاصة قصة مستشفى في نيو أورلينز التي ذاقت الجحيم بعد انقطاع الكهرباء عنها خلال إعصار كاترينا. تناقش شيري فينك (Sheri Fink)، الصحفية بجريدة نيويورك تايمز، الأحداث التي رصدتها في كتابها Five Days at Memorial. إن التفاصيل الصغيرة التي تذكرها صعبة الهضم. فبعد إخلاء وحدة العناية المركزة، يتعين على موظفي المستشفى تصنيف مدى سوء حالة المرضى المتبقين لإجلائهم؛ حيث أن نقل المرضى يعد عملًا شاقًّا بدون المصاعد، ولا تأتي المروحيات والقوارب لنقلهم إلا من حين لآخر. كما تتسرب مياه الصرف الصحي إلى المستشفى وتتسبب الحرارة الشديدة في إصابة بعض المرضى والحيوانات الأليفة بالتشنجات.
وفي هذه الأثناء، يسمع الموظفون في الأخبار تقارير تحوي الكثير من المبالغات عن انتشار أعمال النهب والشغب في المدينة. وبسبب اعتقادهم بعدم وجود خيار بديل، بدأ بعض الموظفون في التفكير في أن القتل الرحيم للمرضى ذوي الحالات الحرجة (والذين يصعب نقلهم لإخلاء المستشفى) هو الشيء الرحيم الذي يجب القيام به. يُزعم أن بعض المرضى قُتلوا بطريقة رحيمة، على الرغم من عدم توجيه أي اتهامات للمشتركين في هذه العملية. ومن المأساوي أن عمليات القتل المحتملة حدثت في نفس اليوم الذي عادت فيه مركبات الإنقاذ.
جوهر هذه القصة هو أن الرضوخ لمنطق الفرز وضَع موظفي المستشفى على منحدر زلق «للعب دور الإله». تستمر الحلقة في مناقشة طرق إضفاء الطابع الرسمي على مبدأ الفرز بحيث لا يضطر الأشخاص إلى الاعتماد على حكمهم الذاتي في مثل هذه الأوقات العصيبة. (كما نوقش أيضًا مبدأ الفرز النفعي، ويمكنك تقريبًا سماع المتحدثين وهم يمتعضون من هذه الفكرة). وفي كثير من الأحيان، يضع مقدم الرعاية مخاوفه الضميرية في المقام الأول، على الرغم من عدم الاعتراف بمدى أنانية هذا الأمر. يصوَّر الفرز على أنَّه أمرٌ سيّءٌ للغاية طوال الحلقة، كما لو أن الأشخاص الذين أُجبروا على الاختيار يجب أن يكونوا مذنبين بطريقة ما لأنهم وقعوا في هذا الموقف.
ولكن القصة الأخيرة هي التي دفعتني لكتابة هذا المقال. تصف المراسلة شيري فينك قصة امرأة التقت بها في مستشفى أمريكي للإغاثة من الكوارث في هاييتي. كانت ناتالي امرأة جميلة في منتصف عمرها، وقد أُنقذت حياتها لأنها ذهبت إلى المستشفى بسبب صعوبة في التنفس. عندما وقع الزلزال، كانت عائلتها بأكملها في منزلهم، الذي انهار وتسبب في موتهم جميعًا. كانت ناتالي تحاول التظاهر بالشجاعة، وكانت سعيدة لأنها على قيد الحياة، وأبدت امتنانها للرعاية التي تلقتها.
ولكن المشكلة كانت بحاجة ناتالي إلى الأكسجين، ولم يكن لدى المستشفى (بل ولا الدولة بأكملها) ما يكفي منه. ولأنها كانت تعاني من قصورٍ في القلب، قررت الممرضة بأن ناتالي لا يجب أن تتلقى المزيد من الأكسجين، كما يجب عليها العودة إلى مستشفى محلي تديره هاييتي، لتموت هناك على الأرجح. تذكر فينك بحزن أن الممرضة التي اتخذت القرار لم تلتقِ بناتالي مطلقًا، كما لو أن ذلك كان سيجعلها تتراجع عن قرارها.
تستقل فينك سيارة الإسعاف معها إلى المستشفى الجديد، حيث تسعل ناتالي وتلهث ولا تتلقى أي أكسجين يساعدها. تشعر فينك بالحزن الشديد. ولكن عندما وصلن إلى المستشفى، يعمل طبيب ماهر بكل ما في وسعه على تصريف السوائل من رئتيها ويتمكن من شفائها دون الحاجة إلى أكسجين إضافي.
تعزز هذه القصة لدى فينك الخيال الأسطوري (Fantasy) بأنه لا يجب عليك الاختيار أبدًا -وأن الموافقة على القيام بالاختيار أمر متطرف. تأثرت فينك بناتالي كثيرًا لدرجة مساعدتها في الحصول على تأشيرة إنسانية إلى الولايات المتحدة. حيث اتضح أنها بحاجة إلى عملية زراعةٍ للقلب، ولكنها توفيت قبل أن تتمكن من إجرائها. لكن، كما تقول فينك، كانت ناتالي مصدر سعادة لكل من التقت بهم في المستشفى؛ حتى أنها قامت بجمع التبرعات للمرضى الآخرين في هاييتي. إذن من هم الأطباء الذين قالوا إنها لا تستحق فرصة لإنقاذ حياتها؟
هذا السؤال خاطئٌ بالطبع، حياة ناتالي استحقت كل الفرص. لا أحد يستحق المعاناة من قصور القلب في المقام الأول. ولكن هل كان احتياجها للأكسجين أكبر من احتياج جميع المرضى الآخرين في المستشفى؟ الإجابة هي لا. هل كان الوقت الذي قضته ناتالي على قيد الحياة أكثر أهمية من مقدار الوقت الكبير الذي يمكن للأطباء أن يمنحوه للمرضى الآخرين من خلال استخدام الأكسجين بعناية؟ بالطبع لا.
لم تناقش الحلقة مصير من كانت عملية الفرز في صالحهم. ولم تحاول تحديد عدد الأشخاص الذين أُنقذت حياتهم بفضل اتخاذ طاقم المستشفى إجراءات صعبة وحاسمة. كما لم يكن هناك نقاش حول من كان يجب أن يموت في هذه الحالة إذا لم تكن ناتالي هي التي ماتت -شخصٌ كان من الممكن أن يعيش سنوات صحية عديدة؟ أم شخصان كان من الممكن إنقاذهما بنفس كمية الأكسجين؟ لم يكن هناك سوى الإنكار أن ما من شخص كان من المفترض أن يموت. لا يوجد امتنان للأرواح الإضافية التي أُنقذت، بل فقط تجنب الخسارة. لا يوجد اعتراف بأن فينك لم تكن تريد بالمرة أن يموت أيّ مريض آخر لو قابلته، ناهيك عن الاعتراف بأن حياة الناس مهمة سواء التقيت بهم شخصيًّا أم لا.
إن اتخاذ خيارات أفضل من خلال الفرز الواعي لا يعني أنك «تلعب دور الإله» بقدر ما هو التخلي عن مسؤولية عواقب أفعالنا بكل سرور. وكلا الاختياران يعنيان السماح لبعض الناس بالعيش ولآخرين بالموت. الفرق الوحيد هو أن الشخص المؤيد للفرز لديه فرصة لاستخدام المنطق لتحسين نتيجة الاختيار. معاناة الشخص الذي لا يحصل على الموارد الشحيحة لن تصبح أقل لمجرد أنك لم تشهد حدوث هذا شخصيًّا. عندما رأت فينك معاناة ناتالي، كان يجب عليها إدراك مدى خطورة الوضع -سواء بالنسبة لناتالي أو بالنسبة للآخرين ممن حصلوا على الأكسجين.
أدرك أنه لأمرٌ صعب، وأننا بغريزتنا نتعاطف مع الأشخاص الذين رأينا معاناتهم أكثر ممَّن لم نرَ معاناتهم. ليس هناك أي عيب في مشاعر فينك العميقة تجاه ناتالي. هذه المشاعر هي مكوِّن رئيس للتعاطف. ولكن العيب يكمن في فكرة ترك عدد أكبر من الأشخاص للموت لعدم تمكُّنك على تجاوز مشاعرك والنظر إلى ما هو أبعد من ذلك. وهذا هو نوع التعاطف الضيق الذي يعارضه بول بلوم (Paul Bloom).
الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم يموتون لأسباب يُمكن الوقاية منها كليًّا. لماذا من الممكن أن يتغير شعورنا تجاه تلك الوفيات لمجرد أنها لا تحدث أمامنا؟ برغم معرفتك أنها تحدث. وتعرف مقدار المعاناة التي يشعرون بها. الفقر هو الجاني الرئيس في تلك الوفيات، وكذلك الأمراض الاستوائية المُهملة التي يمكن علاجها مقابل تبرعات سنوية زهيدة. يمكن لتلك الأموال البسيطة أن تنقذ الناس إذا تبرعت بها لهذا الغرض عوضًا عن تحسين ديكور منزلك أو تجميع دمى أفلام الأكشن. كل قرار نتخذه يؤثر على حياة عدد هائل من الآخرين الذين قد نتمكن من مساعدتهم.
نحن دائمًا في حالةٍ من الفرز. آمل بشدة أن نتمكن يومًا ما من إنقاذ الجميع. وفي الوقت نفسه، من غير المسؤول التظاهر بعدم اتخاذ قرارات حياة أو موت وفقًا لتوزيع مواردنا. فالتظاهر بعدم وجود الاختيار يجعل قراراتنا أسوأ.