عن الاكتراث
كتابة: Nate Soares - منشورة في 7 أكتوبر 2014
ترجمة: معاذ حجاج - بتاريخ 27/12/2023
هذه النسخة من المقالة معدلة قليلًا. بإمكانك الاطلاع على النسخة الأصلية هنا.
1
لستُ ماهرًا في استيعاب الأعداد الكبيرة. بمجرد أن تبدأ في سرد أعداد أكبر من 1,000 (أو ربما حتى 100)، تبدو كل الأعداد «كبيرة» بالنسبة إلي.
فكر مثلًا في نجم الشعرى اليمانية (Sirius)، ألمع نجم في سماء الليل. إذا أخبرتني أن حجم الشعرى يعادل مليون كوكب أرض، سأشعر أن هذا عدد كبير من كواكب الأرض. وإذا أخبرتني، بدلًا من ذلك، أن بإمكانه استيعاب مليار كوكب أرض داخله، سأشعر أيضًا أن هذا عدد كبير من كواكب الأرض.
إدراكي للأمر متطابق تقريبًا. بالنظر إلى السياق، يعترف عقلي على مضض بأن المليار أكبر بكثير من المليون، ويبذل جهدًا رمزيًّا لكي يشعر وكأن نجمًا بحجم مليار أرض أكبر من نجم بحجم مليون أرض. لكن خارج السياق -إذا لم تكن مرجعيتي هي «المليون» عندما سمعت «المليار»- يبدو كلا الرقمين كبيرين على نحو غامض.
أشعر ببعض الاحترام لضخامة الأرقام إذا اخترت أرقامًا كبيرة بحق. إذا قلت «واحد يتبعه 100 صفر»، فهذا يبدو أكبر بكثير من مليار. لكن بالتأكيد لا أشعر (في داخلي) أنه أكبر 10,000,000,000,000,000,000,000,000,000
,000,000,000,000,000,000,000,000,000,000
,000,000,000,000,000,000,000,000 مرةً من المليار . ليس بالطريقة التي تُشعِرني داخليًّا بأن أربع تفاحات تعادل ضعف عدد تفاحتين. عقلي لا يستطيع حتى محاولة استيعاب هذا الفارق في الحجم.
ترتبط هذه الظاهرة بما يسمى «تبلُّد النطاق» (Scope Insensitivity)، وهي ظاهرة مهمة بالنسبة إلي لأنني أعيش في عالم تصبح فيه أحيانًا أعداد الأشياء التي أكترث لها كبيرة للغاية.
على سبيل المثال، يعيش المليارات من البشر في فقر مدقع، حيث يُحرم مئات الملايين منهم من الاحتياجات الأساسية أو يموتون بسبب المرض. ورغم من أن معظمهم بعيدون عن نظري، إلا أنني ما زلت أكترث لأمرهم.
لا شك أن خسارة حياة إنسان بكل أفراحها وأحزانها حدث مأساوي مهما كان السبب، ولا تقِل حدَّة المأساة لمجرد أنني في مكان بعيد، أو لم أعلم بوقوعها، أو لم أعرف كيفية المساعدة، أو لم أكن مسؤولًا عنها شخصيًّا.
على هذا الأساس أكترث لكل فرد على هذا الكوكب. لكن المشكلة تكمن ببساطة في أن عقلي غير قادر على أخذ مقدار الاكتراث الذي أشعر به تجاه شخص واحد، ثم ضربه في مليار. أفتقر إلى القدرة الداخلية على استيعاب هذا القدر من المشاعر. ببساطة، «جهاز قياس الاكتراث» لدي لا يستطيع الوصول إلى هذا الحد.
وهذه مشكلة.
2
من العبارات البلاغية المعروفة أن الشجاعة لا تعني ألا تشعر بالخوف؛ بل أن تشعر بالخوف وتتخذ التصرف الصحيح رغم ذلك. وبالمنطق ذاته، فإن الاكتراث بالعالم لا يعني وجود شعور داخلي يتوافق مع حجم المعاناة في العالم؛ بل الإقدام على التصرف الصحيح على أية حال، حتى في غياب هذا الشعور.
جهاز قياس الاكتراث الداخلي لدي مهيأ للتعامل مع حوالي 150 شخص، وهو ببساطة غير قادر على التعبير عن مقدار الاكتراث الذي أوليه للمليارات التي تعاني، فهو لا يصل إلى هذا الحد ببساطة.
في الواقع، تخاطر الإنسانية برهانات عالية لا يمكن تصورها. على أقل تقدير، هناك مليارات من الأشخاص يعانون اليوم. في أسوأ الأحوال، يوجد كوادريليون (أو أكثر) من البشر المحتملين، أو «البشر التحوُّليين» (Transhumans)، أو «ما بعد البشر» (Post-Humans) الذين يعتمد وجودهم على ما نفعله هنا والآن. كل الحضارات المعقدة التي يمكن أن يحملها المستقبل، وكل ما هو ممكن من الخبرة والفن والجمال في المستقبل، جميعها يعتمد على الحاضر.
عندما نواجه مثل هذه الرهانات، فإن استدلالات الاكتراث الداخلية -والمهيأة للتعامل مع أرقام مثل 10 أو 20، وبحد أقصى حوالي 150- تفشل تمامًا في إدراك خطورة الموقف.
لا شك أنه لأمر عظيم أن تنقذ حياة شخص ما، ومن المحتمل أن يكون شعورك الإيجابي عندما تنقذ حياة شخص واحد هو نفس شعورك إذا أنقذت العالم أجمع. ومن المؤكد أن إنقاذ العالم لن يعطيك شعورًا أفضل بمليارات المرات، لأن جسمك غير قادر على التعبير عن شعور أكبر مليار مرة من شعور إنقاذ حياة شخص واحد. لكن على الرغم من أن السعادة الإيثارية التي تشعر بها من إنقاذ حياة شخص ما ستكون مشابهة بشكل صادم لسعادتك من إنقاذ العالم، تذكر دائمًا أن وراء تلك المشاعر المتشابهة يكمن عالم كامل من الاختلافات.
لسوء الحظ، مشاعر الاكتراث الداخلية لدينا غير كافية على الإطلاق لاتخاذ قرار بشأن كيفية التصرف في عالم يعاني من مشكلات كبيرة.
3
مررت بتحول فكري عندما بدأت استيعاب مفهوم «تبلُّد النطاق» لأول مرة. من الصعب توضيح ذلك نوعًا ما، لذا سأبدأ بسرد بعض القصص.
خذ على سبيل المثال آليس، مهندسة برمجيات في شركة أمازون في سياتل. نحو مرة كل شهر، يظهر طلاب الجامعات على نواصي الشوارع حاملين اللافتات، ويبدو أنهم يشعرون بالإحباط أكثر من أي وقت مضى وهم يكافحون من أجل إقناع الناس بالتبرع لمنظمة أطباء بلا حدود. عادةً، تتجنب آليس التواصل البصري معهم وتمضي في يومها، لكنهم تمكنوا هذا الشهر أخيرًا من محاصرتها. يشرحون لها منظمة أطباء بلا حدود، ولا تجد مفرًّا من الاعتراف بأنها تبدو قضية وجيهة للغاية. في نهاية المطاف، أعطتهم 20 دولارًا بمزيج من الشعور بالذنب والضغط الاجتماعي والإيثار، ثم عادت مسرعة إلى العمل. (في الشهر التالي، عندما يظهر الطلاب مرة أخرى، تتجنب التواصل البصري).
الآن لنفكر في بوب، الذي أشار عليه أحد الأصدقاء على فيسبوك بخوض تحدي دلو الثلج. يشعر بوب أنه مشغول لدرجة تمنعه من قبول التحدي، وبدلًا من ذلك يكتفي بالتبرع بمبلغ 100 دولار أمريكي لجمعية مصابي التصلب الجانبي الضموري (ALSA).
لننتقل إلى كريستين، عضوة نادي ΑΔΠ النسائي في الجامعة. يشارك نادي ΑΔΠ في مسابقة مع ΠΒΦ (نادي نسائي آخر) لمعرفة من يمكنه جمع أكبر قدر من الأموال للمؤسسة الوطنية لسرطان الثدي خلال أسبوع واحد. تتمتع كريستين بروح تنافسية وتنخرط في جمع التبرعات، وتقدم بضع مئات من الدولارات بنفسها على مدار الأسبوع (خاصة في الأوقات التي يتأخر فيها نادي ΑΔΠ أكثر من اللازم).
يتبرع كل من هؤلاء الأشخاص الثلاثة بالمال لمنظمات خيرية، وهذا أمر عظيم. لكن لاحظ أن هذه القصص الثلاث تتشابه في سمة ما: هذه التبرعات مدفوعة إلى حد كبير بالسياق الاجتماعي. تشعر آليس بالالتزام والضغط الاجتماعي. يشعر بوب بالضغط الاجتماعي وربما بالقليل من روح الصداقة. تشعر كريستين بروح الصداقة وبالتنافسية. هذه الدوافع جميعها جيدة، لكن لاحظ أن هذه الدوافع مرتبطة بالبيئة الاجتماعية، ولا ترتبط إلا هامشيًّا فقط بفحوى التبرع الخيري.
إذا أخذت آليس أو بوب أو كريستين جانبًا وسألتهم عن سبب عدم تبرعهم بكامل أوقاتهم وأموالهم لهذه القضايا التي يؤمنون على ما يبدو أنها جديرة بالاكتراث، فسينظرون إليك بطريقة مضحكة وربما يظنون أنك تتصرف بوقاحة (ولسبب وجيه!). إذا ضغطت عليهم، فقد يخبرونك بأن السيولة المالية لا تكفي في الوقت الحالي، أو أنهم سيتبرعون بالمزيد إذا كانوا أشخاصًا أفضل.
لكن السؤال سيظل سؤالًا خاطئًا بشكل ما. إن التبرع بكل أموالك ليس التصرف الصحيح فيما يتعلق بكيفية الإنفاق. في العلن، قد نقول إن الأشخاص الذين يتبرعون بجميع ممتلكاتهم هم أشخاص رائعون بحق، لكن خلف الأبواب المغلقة، نعلم جميعًا أن هؤلاء الأشخاص مجانين (من النوع الجيد من المجانين، ربما، لكنهم مجانين على أية حال).
هذه هي العقلية التي تملكتني لفترة من الوقت. لكن ثمة عقلية بديلة قد تباغتك عندما تبدأ في استيعاب ما يعنيه تبلُّد النطاق.
4
لننظر إلى دانيال، وهو طالب جامعي. بعد فترة وجيزة من وقوع كارثة تسرب النفط من منصة Deepwater Horizon التابعة لشركة النفط البريطانية BP، التقى بأحد الأشخاص الذين يحملون لافتات على نواصي الشوارع يطلب التبرع لمؤسسة الصندوق العالمي للطبيعة. تسعى المؤسسة لإنقاذ أكبر عدد ممكن من الطيور المتضررة من تسرب النفط. عادةً، يرفض دانيال المؤسسة الخيرية ببساطة باعتبارها ليست الشيء الأكثر أهمية، أو أنها لا تستحق وقته الآن، أو أنها مشكلة شخص آخر، لكنه هذه المرة كان يفكر في مدى سوء دماغه في التعامل مع الأرقام ويقرر إجراء فحص سريع لعقلانيته.
يتخيل نفسه وهو يسير على الشاطئ بعد التسرب النفطي ويواجه مجموعة من الأشخاص الذين يعملون بدأب على تنظيف الطيور في أسرع وقت ممكن. وببساطة هم لا يملكون الموارد اللازمة لتنظيف جميع الطيور المتاحة. يتخبط طائر صغير بائس نحو قدميه، ملطخًا بالنفط، وبالكاد يستطيع فتح عينيه. ينحني دانيال لالتقاط الطائر ووضعه على الطاولة. يخبره أحد عمال تنظيف الطيور أنهم لن يتمكنوا من الوصول إلى هذا الطائر وتنظيفه بأنفسهم في الوقت المناسب، لكن دانيال يستطيع ارتداء بعض القفازات وربما إنقاذ حياة الطائر من خلال تنظيفه لمدة ثلاث دقائق.
قرر دانيال أنه سيقضي ثلاث دقائق من وقته لإنقاذ الطائر، وسيسعده أيضًا دفع 3 دولارات على الأقل ليقضي شخص آخر بضع دقائق في تنظيف الطائر. يتأمل ويجد أنه لم يصل إلى هذه النتيجة فقط لأنه تخيل طائرًا أمامه مباشرة: فهو يشعر، بحس أفلاطوني غامض، أن إنقاذ طائر مغطى بالنفط «يستحق» على الأقل ثلاث دقائق من وقته (أو 3 دولارات).
ولأنه كان يفكر في مسألة تبلُّد النطاق، فإنه يتوقع أن يخطئ دماغه في التعبير عن مدى اكتراثه الفعلي بأعداد ضخمة من الطيور؛ لا يمكننا أن نتوقع من الشعور الداخلي بالاكتراث أن يتواءم مع الأهمية الفعلية للموقف. لذا، بدلًا من مجرد سؤال نفسه عن مدى اكتراثه بتنظيف كمية كبيرة من الطيور من النفط، يتوقف ويبدأ في إجراء عمليات الضرب.
تعرضت الآلاف والآلاف من الطيور لتسريب شركة BP وحده. بعد عمليات الضرب، يدرك دانيال (برعب متزايد) أن الحد الأدنى من مقدار اكتراثه بالطيور الملوثة يعادل شهرين من العمل الشاق، أو خمسين ألف دولار، أو كليهما. وهذا لا يشمل حتى أنواع الحياة البرية المهددة بحوادث تسرب النفط الأخرى.
إذا كان يهتم كثيرًا بتنظيف الطيور من النفط، فكم يهتم فعليًّا بمكافحة إنتاج الحيوانات صناعيًّا، ناهيك عن قضايا مثل الجوع أو الفقر أو المرض؟ ما مدى اكتراثه بالحروب التي تعصف الدول؟ بالأطفال المهملين والمحرومين؟ بمستقبل البشرية؟ في الواقع، اكتراثه بهذه القضايا يعادل أموالًا ووقتًا أكثر بكثير مما لديه.
لأول مرة، يأخذ دانيال لمحة عن مدى اكتراثه الفعلي، ومدى الفقر الذي وصل إليه العالم.
كان لهذا تأثير غريب، حيث عاد تفكير دانيال من حيث بدأ، وأدرك أنه في الواقع لا يستطيع الاكتراث بالطيور المتضررة من النفط لمدة تصل إلى 3 دقائق، أو أن ينفق 3 دولارات في سبيلها. ليس لأن الطيور لا تستحق الوقت والمال (في الواقع يعتقد أن الاقتصاد ينتج سلعًا سعرها 3 دولارات وقيمتها أقل من بقاء الطائر على قيد الحياة)، لكن لأنه لا يستطيع أن ينفق وقته أو ماله على إنقاذ الطيور. فجأة تبدو تكلفة الفرصة البديلة مرتفعة للغاية: يوجد الكثير مما يتوجب فعله! الناس يمرضون ويجوعون ويموتون! مستقبل حضارتنا ذاته على المحك!
في النهاية، لا يتبرع دانيال بمبلغ 50 ألف دولار للصندوق العالمي للحياة البرية، ولا يتبرع كذلك لجمعية التصلب الجانبي الضموري، أو المؤسسة الوطنية لسرطان الثدي. لكن إذا سألت دانيال عن سبب عدوله عن التبرع بكل أمواله، لن ينظر إليك بطريقة مضحكة أو يظن أنك وقح. لقد تخطى مرحلة عدم الاكتراث وتركها وراءه، لكنه أدرك أن عقله كان يخدعه طوال الوقت بشأن خطورة المشكلات الحقيقية.
يدرك دانيال الآن أنه غير قادر على فعل ما يكفي. بعد التكيف مع تبلُّد شعوره بالنطاق (وحقيقة أن عقله يخدعه بشأن أحجام الأعداد الكبيرة)، فجأة تبدو حتى أقل القضايا أهمية، مثل الصندوق العالمي للطبيعة، وكأنها تستحق تكريس حياته من أجلها. فجأة أصبحت قضايا مثل تدمير الحياة البرية والتصلب الجانبي الضموري وسرطان الثدي تستحق أن يحرك الجبال لحلها - لكنه فهم أخيرًا أنه يوجد عدد ضخم من الجبال التي يلزم تحريكها، والتصلب الجانبي الضموري ليس عنق الزجاجة، وآه كيف وصَلَت كل هذه الجبال إلى هنا؟
في عقليته الأولى، كان السبب وراء عدم ترك كل شيء للعمل على مرض التصلب الجانبي الضموري هو أن الأمر لا يبدو نوعًا ما ... ملحًّا بما فيه الكفاية، أو سهل الحلِّ بما فيه الكفاية، أو مهمًّا بما فيه الكفاية. هذه بعض الأسباب، ولكن السبب الحقيقي هو أن فكرة «التخلي عن كل شيء لمعالجة مرض التصلب الجانبي الضموري» لم تخطر بباله أبدًا باعتبارها احتمالًا واقعيًّا. كانت الفكرة بعيدة كل البعد عن سرديته الأساسية. لم تكن مشكلته.
لكن في عقليته الجديدة، كل شيء هو مشكلته. السبب الوحيد الذي يجعله لا يترك كل شيء من أجل مساعدة مرضى التصلب الجانبي الضموري هو أنه يوجد الكثير مما يتوجب عليه فعله أولًا.
عادةً، لا يقضي كل من آليس وبوب وكريستين وقتًا في حل جميع مشكلات العالم لأنهم يغفلون عن النظر فيها. إذا ذكرتهم بها -بوضعهم مثلًا في سياق اجتماعي يذكرهم بمدى اكتراثهم (على أمل ألا يتطلب ذلك إشعارهم بالذنب أو الضغط)- فمن المرجح أن يتبرعوا بالقليل من المال.
على النقيض من ذلك، لا يقضي دانيال وغيره ممن مروا بتجربة التحول الفكري وقتهم في حل جميع مشكلات العالم لوجود الكثير من المشكلات. (لنأمل أن يستمر دانيال في اكتشاف حركات مثل الإحسان الفعال ويبدأ بالمساهمة في حل المشكلات الأكثر ضرورةً في العالم).
5
لا أحاول هنا أن أعظ عن كيف تكون شخصًا صالحًا. ليس عليك أن تتبنى وجهة نظري لتصبح شخصًا صالحًا (بطبيعة الحال).
بدلًا من ذلك، أحاول أن أشير إلى تحول في رؤيتنا للأمور. يقضي الكثيرون منا حياتهم وهم يعلمون أن علينا الاكتراث بالأشخاص الذين يعانون في أماكن بعيدة عنا، ولكنهم يفشلون في تحقيق ذلك. أعتقد أن هذا السلوك مرتبط، جزئيًّا على الأقل، بحقيقة أن معظمنا يثق ضمنيًّا بأجهزة قياس الاكتراث الموجودة داخلنا.
عادةً لا يكون «الشعور بالاكتراث» قويًّا بما يكفي لإجبارنا على السعي بكل قوة لإنقاذ كل شخص يحتضر. لذلك، في حين ندرك أنه من الفضيلة أن نقدم المزيد من أجل العالم، إلا أننا نعلم أننا غير قادرين على تحقيق ذلك، لأننا لم نُمنح نعمة الاكتراث الفائق والنقي التي تحظى بها الشخصيات الإيثارية البارزة.
لكن هذا خطأ -فالمعروفون من الإيثاريين ليسوا أشخاصًا ينعمون بجهاز قياس اكتراث أكبر؛ لكنهم أشخاص تعلموا ألا يثقوا في أجهزة قياس الاكتراث داخلهم.
في الواقع، أجهزة قياس الاكتراث التي نعتمد عليها معطوبة؛ فهي لا تستطيع التعامل مع الأعداد الكبيرة. لا أحد يحظى بجهاز قادر على تمثيل نطاق مشكلات العالم بدقة. لكن حقيقة أنك لا تستطيع الشعور بالاكتراث لا تعني أنك لا تستطيع فعل ما يلزم.
لن تشعر بالقدر المناسب من «الاكتراث» داخل جسمك. للأسف، مشكلات العالم بالغة الضخامة، وجسمك غير مهيأ للاستجابة بما يتناسب مع مشكلات بهذا الحجم. لكن إذا اخترت السعي نحو تحقيق ذلك، لا يزال بإمكانك أن تتصرف حيال مشكلات العالم بحجمها الفعلي. بإمكانك التوقف عن الثقة في توجيه مشاعرك الداخلية لأفعالك، والانتقال إلى وضع التحكم اليدوي.
6
هذا يقودنا بالطبع إلى السؤال التالي: «ماذا نفعل إذن؟»
وأنا لا أعرف الجواب حقًّا حتى الآن. (لكني سأضيف روابط منظمات Giving What We Can pledge، GiveWell، MIRI، The Future of Humanity Institute كنقطة بداية جيدة).
أعتقد أن جزءًا من الحل على الأقل يأتي من تبني منظور محبِطٍ نوعًا ما. لا يكفي أن تعتقد أن عليك تغيير العالم، بل تحتاج أيضًا إلى الشعور باليأس الذي يأتي من إدراك أنك قد تكرّس حياتك بأكملها لحل المشكلة رقم 100 في ترتيب المشكلات الأكبر في العالم إذا استطعت، ولكنك لا تستطيع، لأن هناك 99 مشكلة أكبر عليك حلها أولًا.
أنا لا أحاول أن أشعرك بالذنب لكي تتبرع بالمزيد من المال - فأن تصبح فاعل خير (Philanthropist) أمر جد صعب. (إذا كنت بالفعل محبًا للخير، لك احترامي ومودتي). والسبب في ذلك أن الأمر يتطلب أولًا أن تمتلك المال، وهو أمر غير شائع، ثم يتطلب منك إنفاق هذا المال على مشكلات بعيدة وغير مرئية، وهو أمر لا يسهل إقناع العقل بشري به. الأكراسيا (ضمور الإرادة) عدو جبار. والأهم من ذلك، أن الشعور بالذنب لا يبدو حافزًا مفيدًا على المدى الطويل: إذا كنت تود الانضمام إلى صفوف الأشخاص الذين ينقذون العالم، فمن الأفضل أن تنضم إليهم بفخر. تنتظرنا العديد من التجارب والمحن، ومن الأفضل أن نواجهها ورؤوسنا مرفوعة.
7
الشجاعة لا تعني ألا تشعر بالخوف؛ بل أن تكون قادرًا على اتخاذ التصرف الصحيح رغم خوفك.
وبالمثل، لا تتعلق معالجة المشكلات الكبرى في عصرنا بالشعور بالاضطرار لمعالجتها، بل يتعلق بمحاولة معالجتها حتى عندما يفشل شعورنا الداخلي بالضغط في استيعاب نطاق المشكلات التي نواجهها.
من السهل أن ننظر إلى الأشخاص الذين يتمتعون بالفضيلة على نحو استثنائي -غاندي، والأم تيريزا، ونيلسون مانديلا- ونستنتج أنه من المؤكد أنهم يكترثون أكثر مما نكترث. لكنني لا أرى أن هذا صحيح.
لا أحد يستوعب حجم هذه المشكلات. أقرب ما يمكننا الوصول إليه يكون بإجراء عمليات الضرب الحسابية: نجد شيئًا نكترث لأمره، ونعطيه رقمًا، ثم نجري عمليات ضرب. الخطوة التالية هي أن نثق بالأرقام أكثر من ثقتنا بمشاعرنا.
لأن مشاعرنا تخدعنا.
عندما تجري عملية الضرب، فإنك تدرك أن حل مشكلة الفقر العالمي وبناء مستقبل أكثر إشراقًا يستحقان موارد أكثر مما هو متاح حاليًّا. لا يوجد ما يكفي من المال أو الوقت أو الجهد في العالم لفعل ما يلزم.
لا يوجد سواك أنت وأنا وكل من يحاول على أية حال.
8
في الواقع، لا يستطيع أحد أن يشعر بثقل العالم. العقل البشري غير قادر على مثل هذه المهمة.
لكن في بعض الأحيان، قد تأخذ لمحة عما يعنيه ذلك.
-
التعليقات
لا يوجد أي تعليقات لعرضها.
تسجيل الدخولمقالات أخرى
عطاء 101 - دليل إرشادي من GiveWell
كتابة: منظمة GiveWell - نُشرت بتاريخ 10/11/2020ترجمة: محمد هانئ حلمي ثريا - بتاريخ 25-12-2023المبادئ الرئيسة التي نوصيك بمراعاتها عند اختيارك للمكان الذي ستتبرع إليه:يمكن لتبرعك أن يغير حياة إنسان.مقا
10/03/2024اللامساواة الاقتصادية العالمية
كتابة: Max Roser - بتاريخ 23/2/2022ترجمة: محمد هانئ حلمي ثريا - بتاريخ 24-12-2023إن أكثر ما يهم بشأن مستوى صحتك، وثرائك، وتعليمك ليس من أنت، بل أين أنت. إن لمعرفتك واجتهادك في العمل دور أيضًا، ول
10/03/2024التقدير الفِرميّ
كتابة: Center for Effective Altruism - نُشرت بتاريخ 21 يونيو 2022ترجمة: محمد هانئ حلمي ثريا - بتاريخ 20-12-2023إن التقدير الفرمي (Fermi estimate) (أو حساب الورقة والقلم، وغالبًا ما يختصر بكلمة BOTEC*)
10/03/2024